قصي عبد الباري
تحت مسمى “تلبية نداء الوطن” والتضحية بالغالي والنفيس فداء له، رحلت قبيلة “الولدة” من أراضيها في مدينة الرقة في التاسع والعشرين من نيسان عام 1975 باتجاه مدينة “القامشلي”.
الحديث عن الهجرة
في ذلك التاريخ، كانت عشيرة “الناصر” والتي تترأس قبيلة “الولدة”، تنقسم إلى قسمين رئيسيين وهما “ناصر الشامية” التي تقيم على الضفة اليسرى لنهر الفرات و”ناصر الجزيرة” التي تزعمها حينها الشيخ “شواخ البورسان” وهو القسم الذي رحل باتجاه القامشلي، بعد أن كانت تقيم في الضفة اليمنى للنهر.
في شباط من عام 1974 زار وفد رأس النظام حينها، حافظ الأسد. ضم الوفد الشيخ “شواخ البورسان” ومعه كل من الشيوخ “عبود شواخ البورسان وعبد الله البورسان”. والتحق بالوفد عدد من أبناء العشيرة أبرزهم الشيوخ “سليمان المبروك وعمر المحمد الجمعة وعلي الأحمد الخمري”. وكان موضوع اللقاء مع حافظ الأسد هو بحث موضوع التهجير الذي كان قد بدأ الحديث عنه في السنة التي سبقتها تحت عنوان “تعريب المنطقة” سياسياً، في حين كان السبب الرئيسي، مشروع سد الفرات، الذي غمرت بحيرته قرى العشيرة.
مصدر من أبناء عشيرة “الناصر” التي تتزعم القبيلة، روى لـ “اقتصاد” تفاصيل من ذلك التاريخ المنسي والذي يتم تجاهل تفاصيله، حينما يتم الإشارة إلى قضية “عرب الغمر”. يروي المصدر: “خلال الزيارة الأولى التي جمعت الوفد الممثل بالشيخ (شواخ البورسان) وحافظ الأسد، بدأ حينها الأخير حديثه عن نية الحكومة نقل أبناء قبيلة (الوالدة) من أراضيهم على الضفة اليمنى لنهر الفرات إلى منطقة القامشلي متذرعاً بأنه يريد نقل قبيلة لها حس وطني إلى المنطقة التي كانت (كردية) بشكل كامل حينها. وقال حافظ بأن القبيلة ستكون (سياج الوطن) عندما تنتشر على امتداد ما يسمى بـ (الخط العاشر) والذي يضم 48 قرية انتشرت القبيلة فيها بعد الترحيل، حيث يبدأ الخط بالقرب من مدينة رأس العين غرباً حيث تسمى القرى هناك قرى (المبروكات)، وينتهى عند الحدود العراقية في قرية (عين الخضرا) على امتداد 200 كيلو متر يفصل بين القرية والأخرى مسافة لا تزيد عن 5 كيلو متر”.
يضيف المصدر: “الاجتماع الذي انتهى حينها دون رد من قبل أبناء القبيلة، لاقى رفضاً كبيراً بعد عودة الوفد الذي زار دمشق وخصوصاً من قبل (عبود البورسان) ابن (شواخ البورسان) شيخ القبيلة”.
ويتابع المصدر روايته: “تضاءل الحديث عن الهجرة بين أبناء القبيلة حتى أيار من العام ذاته عندما زار وفد من حكومة النظام مضافة (شواخ البورسان) شيخ القبيلة. الوفد الحكومي تألف حينها من محمد جابر البجبوج الأمين القطري المساعد في حزب البعث، وعبد الله الأحمر عضو القيادة القطرية، وأحمد حسن الأسعد وزير الزراعة، ومنير ونوس وزير سد الفرات، ومحمود الأطرش أمين فرع حزب البعث في محافظة الرقة، ووائل اسماعيل محافظ الرقة. وجدد الوفد طلب حكومة الأسد من أبناء القبيلة الرحيل باتجاه مدينة القامشلي. وأتت الموافقة رسمياً من شيخ القبيلة على طلب الحكومة الرحيل باتجاه القامشلي أواخر العام بعد أن زار شيوخ العشائر السورية دمشق تلبية لدعوة حافظ الأسد للقدوم لاستقبال الملك فيصل ملك السعودية، حيث ناقش الأسد خلال الزيارة أمر الرحيل مجدداً بشكل منفرد مع شيخ القبيلة الذي عاد إلى الرقة بعدها معلناً قبوله الرحيل باتجاه القامشلي”.
يستطرد المصدر: “رغم رفض عدد كبير من أبناء القبيلة الرحيل إلا أن الرد كان من شيخ القبيلة أنه اعتزم الرحيل وبأنه أعطى كلمة لن يتراجع عنها لـ (أبو سليمان)، أي حافظ الأسد”.
وأشار المصدر إلى اجتماع جرى بين عبود البورسان، ابن شيخ القبيلة، ووائل اسماعيل، محافظ الرقة، قبيل الرحيل، أكد حينها الأخير رفضه لموضوع التهجير إلا أنه كان مكلفاً بتبليغ القبيلة بضرورة رحيلهم.
الأراضي التي خسرتها القبيلة
أكبر ملاك الأراضي ذاك الوقت كانوا الشيخ “شواخ البورسان” متزعم قبيلة الولدة، والشيخ “سليمان المبروك” والشيخ “عمر محمد الجمعة”. وكانت الأراضي التي غمرتها البحيرة ومشروع السد تنقسم إلى أراضٍ بعلية وأخرى مروية. الأراضي البعلية التي خسرها الشيخ “شواخ البورسان” والتي كان يحمل بها أوراق “طابو” نظامية، تُقدّر بنحو37 ألف هكتار يضاف لها سبعة آلاف هكتار أراضٍ مروية.
تلك الأرقام تنطبق بشكل تقريبي على مساحة الأراضي التي خسرها كل من الشيخ سليمان المبروك، وعمر محمد الجمعة، ويضاف لها أراضٍ أخرى.
مصدر آخر من داخل العشيرة أكد لـ “اقتصاد” عودة المياه عن قسم كبير من الأراضي التي تم غمرها إضافة إلى الأراضي التي لم تصلها المياه أصلاً، وتم الاستيلاء عليها من قبل مزارعي المنطقة بمباركة من حكومة النظام، وتمت عملية السيطرة وتوزيع الأراضي حسب نفوذ الفلاح وقوته في المنطقة.
عمليات الاستيلاء لم تقتصر على الأراضي فقط بل امتدت لتطال مولدات ضخ المياه وجرارات زراعية وآلات زراعية ومولدات كهربائية لم تقم القبيلة بنقلها معها أثناء الرحيل، كما أشار المصدر. والضعيف اجتماعياً، لم يتمكن من الحصول على شيء. وكان المستفيدون يرددون شعارات “يا اقطاعي منتا منا .. شيل اجلالك وارحل عنا”، وذلك قبيل الترحيل، رافعين أعلام حزب البعث وصور كل من حافظ الأسد وجمال عبد الناصر.
التهجير يطال ريف حلب
مشروع “سد الفرات” الذي أنشأته حكومة حافظ الأسد، والذي أشرف على تنفيذه الروس، لم تغمر مياه بحيرته أحلام أبناء القبيلة في الرقة فقط بل امتدت لتطال قسماً آخر من القبيلة يقيم شرق حلب. عشيرة الغانم، التي تنطوي رسمياً تحت قبيلة الولدة، رحلت أيضاً من أراضيها في ناحية الخفسة بريف حلب الشرقي، وتحديداً قرب محطة ضخ المياه لمدينة حلب.
مصدر من أبناء عشيرة الغانم، قال في تصريح خاص لـ “اقتصاد”: “رحل قسم من القبيلة والذين طال مشروع السد أراضيهم عن قرية أبو دارة وقرى عديدة تحيط بها باتجاه كل من قرى ظهر العرب وتل أعور والتي تقع أيضاً ضمن قرى الخط العاشر على الحدود السورية – التركية. في حين لا يزال قسم كبير من أبناء العشيرة يعيشون حتى اليوم في مناطق ريف حلب الشرقي”.
القبيلة رحلت عن أراضيها تحت وعود كبيرة قدمتها حكومة النظام بالتعويض وتوطين العشيرة في قرى نموذجية، إلا أن المهجرين لم يجدوا بعد رحيلهم سوى بيوت من طين يتألف الواحد منها من غرفة ومطبخ دون حمام.
المصدر: موقع اقتصاد