أحمد الزاویتي – كاتب وصحفي كردي
البارزاني في علاقاته ما بعد الاستفتاء ليس هو نفسه في علاقاته ما قبل الاستفتاء.. فقبل ذلك ظهر واضحا اصطفافه كعضو في المحور التركي في المنطقة بالضد من المحور الإيراني، فبعدما تمكنت إيران من استقطاب كل القيادات الشيعية والجمهور الشيعي في العراق، ومن ثم غالبية القيادات السنية ايضا، وبعض من الكورد، وقف البارزاني القيادي العراقي الوحيد معاندا للطموح الايراني بجعل كل العراق حلقة وصل بين إيران ومشروعها في سوريا المؤيد لنظام بشار الأسد، فبقيت كردستان العراق عائقا مزعجا لإيران بسبب البارزاني.
اكتفى البارزاني بعلاقاته القوية مع أمريكا والدول الأوروبية وتركيا، بل ذهب إلى أبعد من تركيا مما يزعج إيران وهو عمل علاقات جيدة مع السعودية والإمارات عدوا إيران في المنطقة وأكثر دولتين تعاديان علنا إيران، زار البارزاني السعودية والإمارات في وقت رفض دعوة رسمية من إيران له لزيارتها، لم يبال في ذلك استفزازه لإيران وبغداد، ظانا أن علاقاته الأولى تحميه من شرّ ما سينتج عنه غضب إيران وبغداد، وذهب بعيدا عندما قرر إجراء الاستفتاء بالرغم من رفض بغداد وطهران له، حيث ظن أن علاقاته الجيدة مع تركيا وأمريكا وأوروبا والخليج واصطفافه معهم ستنقذه، باعتبار المحور الإيراني مغضوب عليه في المنطقة، وهذا سيساعده في ذلك.
لكنه أدرك بأنه أخطأ الظن بتركيا أولا عندما عرف أن تركيا هي تركيا المصلحة وإشاراتها الإيجابية له في كل خطواته وإدارته لإقليم كردستان ومن ثم الرفض المتأخر منها بل العداء لإجراء الاستفتاء، لم تكن في صالحه فعلا خاصة عندما علمت تركيا أن أمريكا أيضا وأوروبا لا تقف إلى جانب البارزاني ضد بغداد بل على العكس.. تركيا استغلت الفرصة لتكسب ود بغداد، وتعوض خسائرها المتوقعة من إقليم كردستان عند الوقوف ضد طموحها، لتعوضها بمكاسب من بغداد، أما السعودية والإمارات والمعروف عنهما رش مساعداتهما المليارية يمنة ويسرة لم يحصل البارزاني منهما على شيء في أسوء ظروف اقتصادية مرّ بها الإقليم منذ عام 2014، وما بعد الاستفتاء.
البارزاني في الزاوية الحرجة:
إذن وجد البارزاني نفسه محاصرا في الزاوية الضيقة، يبحث عن منفذ نجاة، فانسحب من رئاسة الإقليم نحو خلوة سياسية والابتعاد عن كل نشاط، تاركا المجال لابن أخيه نيجيرفان أن يواجه تحديات ما بعد الاستفتاء، ويعمل من أجل الحفاظ على ما تبقى من منجزات إقليم كردستان، حتى بدأت الأمور تهدأ.
في الوقت الذي ظن الكثير أن البارزاني قد انتهى، وولىّ عصره، ونحن نعيش في مرحلة ما بعد البارزاني! عاد رويدا رويدا للنشاط من جديد، جاء أولا ليُعدّ حزبه جيدا لأهم عمليتين انتخابيتين ستجريان في العراق، انتخابات مجلس النواب العراقي، وبعد أشهر منها انتخابات برلمان كردستان، رغم أن القوى المعارضة في كردستان تشكك فيما حصلت من نتائج في كلتا العمليتين، لكن حتى قبل الانتخابات كانت الدراسات والقراءات والاستفتاءات الإعلامية الداخلية في كردستان كانت تشير إلى أن حزب البارزاني هو الحزب الأكثر جاهزية لإجراء الانتخابات والأكثر حظا للفوز بها، بسبب ما كانوا يرونه على أرض الواقع من حقائق.
الرقم الأصعب:
جاء ما كان متوقعا بعدما حقق حزب البارزاني نصرا كبيرا في كلتا الانتخاباتين عندما زاد من عدد مقاعد حزبه في مجلس النواب العراقي رغم مقاطعته المشاركة في انتخابات كركوك باعتباره وضعا شاذا لا يمكنه المشاركة فيها، مفضلا خسارة كل مقاعد حزبه هناك بدلا من المشاركة، إلا أن حزبه حصل لوحده على 25 مقعدا في مجلس النواب العراقي ليكون الحزب رقم أول على العراق، أكرر كحزب وليس كتحالف! – لأن بقية الأطراف شاركت كتحالفات وتيارات مؤدلجة وليس كحزب سياسي واحد – وكذلك في انتخابات كردستان حصل على 45 مقعدا بزيادة 7 مقاعد عما كان عليه سابقا، وهذا يؤهله (من حيث الحسابات) لتشكيل الحكومة لوحده بالمشاركة فقط مع حلفائه من الكوتا المسيحيين والتركمان والأرمن حيث تبلغ عددهم 11 مقعدا يملك حزب البارزاني 80% منها.. إضافة إلى أحزاب ذات المقعد الواحد وهي أيضا واجهات شكلها الحزب الديمقراطي، لكن واقعيا لا يمكن لحزب البارزاني تشكيل أي حكومة في كردستان دون الاتحاد الوطني الكردستاني (حزب الطالباني). بهذا اثبت البارزاني للعالم جميعا أنه لا يزال الرقم الأصعب في العراق بالرغم من إجراء عملية الاستفتاء، والموقف الإقلیمي والدولي الرافض لها.
ماذا تغير؟!
التغيير هو أن البارزاني ما بعد الاستفتاء قد اخذ الدرس من علاقاته ما قبل الاستفتاء! عندما توجه فعلا لضمان جبهته الخلفية (إيران) بعدما عمل اجتماعات سرية مع قاسم سليماني الذي وعد بدوره البارزاني بالعودة قويا إلى بغداد، وهو ما حصل فعلا، فعاد كما كان رغم ما قيل وسيقال من أوامر بالقبض عليه من بغداد نتيجة إجراء الاستفتاء، وبعدما أبلغت القيادات الشيعية الكورد المعادين للبارزاني في بغداد، بأن أي علاقة لبغداد مع كردستان تكون عبر البارزاني وليس غيره!
نعم إيران التي تيقن البارزاني بانها الطرف الوحيد في المنطقة تحافظ وتقوي وتدافع عن حلفائها الضعفاء، بالرغم من الصخب والصياح العالمي والمحلي المعادي في المنطقة ضد إيران، فها أن حليفها حسن نصر الله صار الأقوى في لبنان، وغزة في فلسطين أصبحت هي الأقوى في فلسطين، والحوثي في اليمن، ناهيك عمن هم في بغداد.
على البساط الأحمر
البارزاني رفض السير على البساط الأحمر الذي فرش له في زاخو عند الحملة الدعائية لحزبه لانتخابات بغداد، مفسرا ذلك بالخجل من دماء شهداء البيشمركة الحمراء، لكنه سار بافتخار على ما فرش من بساط أحمر له في بغداد، فالسير هنا في بغداد على البساط الأحمر له معان أخرى غير المعاني التي فسرها البارزاني للبساط في زاخو، ففي بغداد فيها جملة من معاني التحدي لأعدائه المحليين الكورد الذين راهنوا على بغداد في معاداتهم للبارزاني، وكذلك أعدائه العراقيين الآخرين الذين شوهوا كثيرا صورة البارزاني لدى العراقيين بعد الاستفتاء، من قيس الحزعلي وحيدر العبادي ونوري المالكي بل حتى الذي استقبله في المطار هادي العامري.
إيران الضامنة وليس الآخرون!
الحسم الظاهري لحل المشاكل بين بغداد وأربيل هي حتى الآن لصالح إيران فوعودها بدأت تظهر بزيارة البارزاني وحسم أهم المشاكل مع بغداد بعد زيارة البارزاني وهي:
– الموازنة زيادتها من 12% من عهد حيدر العبادي إلى 14% في عهد عادل عبد المهدي، على أمل بإجراء الإحصاء الذي تأخر كثيرا حسب البارزاني، بعد عامين من رئاسة عبد المهدي.
– جعل موازنة البيشمركة وملحقاتها على موازنة وزارة الدفاع العراقية، وبالتالي تخفيف الضغط على موازنة الإقليم.
– إعادة ضخ نفط كركوك عبر أنبوب نفط كردستان إلى ميناء جيهان التركي، الأمر الذي توقف بعد الاستفتاء، لتكون الخطوة هذه لصالح كردستان العراق.
– اتفاق على حل مشكلة النفط بين الطرفين، وهي التي اعتبرت من أعقد المشاكل.
هل حقق البارزاني البديل عن الاستفتاء من إيران؟
حل كل هذه المشاكل كان مطلبا للبارزاني قبل الاستفتاء، وكان ذلك هو البدیل الذي طالب به البارزاني حينه لثنيه عن إجراء الاستفتاء، وهو ما وعده به كل من الولايات المتحدة والدول الأوروبية وتركيا، إلا أنه لا أحد منهم كان مستعدا أو رأى في نفسه إمكانية إعطاء الضمان للبارزاني بتحقيق ذلك، ليأتي الضمان كما الكونكريت المسلح من إيران وبالتحديد من قاسم سليماني الذي ظهر دوره القوي جليا في زيارة بارزاني الأخيرة إلى بغداد، ومن يدري ربما زيارة قادمة لطهران!