نوفين حسن – برلين – آشا نيوز
قبل بضعة أشهر، بدا أن كُرد العراق وسوريا هم أكبر الفائزين في الحرب ضد تنظيم الدولة الإسلامية “داعش”. فبدعمٍ من التحالفات مع القوى الغربية نفسها التي خانتهم وقسَّمتهم، تجرَّأوا على الحلم بأنهم أوشكوا على إلغاء ما يعتبروه خطأً تاريخياً، عندما حرمتهم المناورات الجيوسياسية من تأسيس دولتهم بعد نهاية الحرب العالمية الأولى.
ومع ذلك، وبدلاً من أن يشهدوا إقامة وطن مستقل، عانى الكُرد من نكسةٍ كبيرةٍ. فمع انتهاء الحملة العسكرية ضد داعش، لم يتحوَّل حماس الولايات المتحدة وحلفائها لاستخدام الأكراد كوكلاءٍ لهم ضد التنظيم الجهادي إلى دعمٍ عسكري أو دبلوماسي طويل الأمد، وبالتأكيد ليس إلى تأييدٍ لإقامة دولة، بحسب تقرير لصحيفة فورين بوليسي الأميركية.
كان قادة الأكراد دائماً على درايةٍ بمثل هذه المخاطر، لكنهم وافقوا رغم ذلك على المُضيّ قدماً، سعياً للحصول على مكافأةٍ عادلة للتضحيات التي قدَّموها، إذ فُقِدَت آلاف الأرواح، وانتقلت استثماراتٌ ضخمة من تنمية المناطق الكردية إلى استعادة المناطق ذات الأهمية الكبيرة للولايات المتحدة وحلفائها بغض النظر عن أهميتها للقوات الكردية نفسها.
وقد تسبَّبَت هذه المهمات في شعورٍ كبير بالإحباط لدى الشعب الكردي. وأشار محامٍ كردي بمدينة القامشلي السورية إلى أن القوات الكردية قد حاربت لتحرير العديد من المدن العربية، في حين لا تزال المناطق الكردية تعاني من ضعف البُنى التحتية الأساسية مثل المدارس والكهرباء.
ومما زاد الأمور سوءاً أن التخلِّي الغربي والخلل السياسي الداخلي قد ترك الأكراد في موقفٍ أخطر من أي وقت مضى. فعلى مدار العام الماضي، تخلَّت السلطات الكردية في العراق عن استراتيجيتها الحذِرَة سعياً لتحقيق الاستقلال على أملِ أن يسمحَ الدعمُ الأميركي لهم بتجاوز العقبات المتبقية منطلقين نحو خط النهاية، لكنهم كانوا مُخطئين. وأدى قرارهم بالاستمرار في استفتاء الانفصال المثير للجدل، مُتَحَدِّين إرادة الدول الأقوى، إلى نكسةٍ تاريخية.
وكان من المُفتَرَض أن يبدأ الاستفتاء في سبتمبر/أيلول 2017، العملية التي كان من شأنها أن تشهد جني أكراد العراق المكافآت مقابل دورهم في الحرب ضد داعش. ومدَّ مسعود بارزاني، رئيس إقليم كردستان العراق، التصويت إلى مناطق تُعرف باسم الأراضي المُتنازَع عليها (المناطق الحدودية بين إقليم كردستان والعراق التي يطالب بها الجانبان لثرواتها النفطية). لكن حكومة رئيس الوزراء حيدر العبادي اعترضت على هذا القرار، واعتَبَرَته خطوةً أولى نحو ضم إقليم كردستان لهذه المناطق.
كان رد الحكومة العراقية سريعاً وقوياً، إذ أرسل العبادي في أعقاب الاستفتاء قوات إلى الأراضي المُتنازَع عليها لاستعادة سيطرة بغداد. وقد خسرت العراق هذه المناطق لمقاتلي البيشمركة الكردية قبل أكثر من ثلاث سنوات، عندما انسحب الجيش العراقي أمام الهجوم الأوليّ الذي شنَّه داعش.
وفي أكتوبر/تشرين الأول، وبعد استعادة حقول النفط في كركوك، استمرت القوات العراقية في التقدُّم، واستولت على مساحاتٍ شاسعة من الأراضي المُتنازَع عليها شمالي وشرقي العراق، أكثر مما استولى عليه الأكراد في عام 2014.
وسرعان ما اكتشف بارزاني تخلِّي حلفائه عنه، واتحاد أعدائه ضده. إذ نشرت إيران، التي لطالما عارضت أي تحرُّكٍ نحو تفكيك العراق، بعض الميليشيات الشيعية التي كانت تُدرِّبها وتُجهِّزها ضد القوات الكردية التي انسحبت في مواجهة جيش العبادي المُتقدِّم.
أما تركيا، حليف بارزاني، فقلقت من نمو المشاعر الانفصالية بين أكرادها المحليين، وهدَّدَت بإغلاق حدودها مع الإقليم الكردي، وأخذت موقفاً حيادياً عندما توسّطت إيران في صفقةٍ مَكَّنَت حكومة بغداد من دفع الأكراد.
من جانبهم، لطالما عارض المسؤولون الأميركيون أي تغييراتٍ في حدود الشرق الأوسط خوفاً من بدء تأثير الدومينو الذي لا يمكن إيقافه، وكذلك عارضوا أي تحرُّكٍ يُهدِّد بتقويض الحكومة المركزية العراقية، كما نصحوا بارزاني علناً بعدم الاستمرار في الاستفتاء قبله بأسابيع.
ولم تتخذ واشنطن أي إجراءٍ عندما علمت أن العبادي أبرم اتفاقاً مع إحدى الجماعات الكردية، وهو فصيل طالباني التابع للاتحاد الوطني الكردستاني، لاستعادة حقول كركوك النفطية دون إراقة دماء. ويبدو أن إيران توسَّطَت في هذه الصفقة.
قد يُمثِّل استيلاء الحكومة العراقية على حقول النفط حول كركوك ضربةً لتطلُّعاتِ الأكراد أكبر من خسارة المدينة نفسها. فالنفط شيءٌ بالغ الأهمية لمحاولتهم للاستقلال، إذ يُوفِّر تدفُّق الإيرادات الذي يمنحهم تفوقاً اقتصادياً على جيرانهم.
ويعني فقدان السيطرة على تلك الحقول الاضطرار إلى العودة إلى عهدٍ سابق حين كان يعتمد الإقليم في دخله على حقول العراق الجنوبية الأكبر بكثير. ويكشف الأسلوب الذي اتبعته بغداد منذ استعادة كركوك في منتصف أكتوبر/تشرين الأول أن هذا هو بالضبط الوضع الذي تعتزم استعادته: اعتماد الإقليم الكلي تقريباً على بغداد.
الخطآن القاتلان
أساءت القيادة الكردية التقدير في أمرين تسبَّبا في موقفها الحالي الخطير: الأول كان توقُّع بارزاني أن أميركا ستدعمه في سعيه نحو الاستقلال، استناداً إلى ما اعتبره فائدة الأكراد للغرب وتعاطف الغرب المُفتَرََض معهم. إذ يعتقد قادة الأكراد أنهم أثبتوا جدواهم كحلفاءٍ للولايات المتحدة مراراً وتكراراً، وروَّجوا لكردستان على أنها شريكٌ يمكن الاعتماد عليه في إيقاف الطموحات الإيرانية بالمنطقة.
ولطالما ذكر زعماء الأكراد دعمهم للمبادئ الديمقراطية، مُدَّعين أنهم يُمثِّلون نموذجاً للشرق الأوسط بعد عام 2003. ولا يتوقَّفون أبداً عن الحديث عن حمايتهم للأقليات العرقية ولأكثر من مليون عراقي نازحٍ في الإقليم الكردي. ويُبرِّرون سعيهم إلى إقامة دولة بأنه لا يقل شرعية عمَّا فعلته أميركا في حربها من أجل الاستقلال، وأن مبدأ تقرير المصير مُكرَّسٌ في القانون الدولي.
لكن سبب فشل هذا الكلام الفاتن يرجع جزئياً إلى سوء تقدير بارزاني الثاني، الذي يقترب كثيراً من الوطن. الحقيقة المُرَّة هي أن القادة الأكراد يرغبون في التباهي بأنهم بنوا معقلاً ديمقراطياً مزدهراً في الشرق الأوسط الاستبدادي، لكنهم لم يفعلوا ذلك في الواقع.
فبعد سقوط صدام حسين، لم يبذل الحزبان الكرديان الرئيسيان (الحزب الديمقراطي الكردستاني بزعامة بارزاني، والاتحاد الوطني الكردستاني بزعامة طالباني) قصارى جهديهما في إنشاء مؤسسات قانونية أو تنويع الاقتصاد. وبدلاً من ذلك، استخدما أموال النفط لإثراء نفسيهما وأسرتيهما وكوادرهما الحزبية.
وقد أدَّى الهجوم الذي شنَّه داعش على شمال العراق في يونيو/حزيران 2014 إلى تدهور الأمور أكثر. وقد منح القتال ضد تهديدٍ مشترك بارزاني مساحةً من الحرية السياسية، ومُبرِّراً لإغلاق البرلمان، وفرصةً لتمديد فترة ولايته رئيساً للإقليم.
حلَّ حكم الفرد الواحد محلَّ الحكم المبنيّ على الأحزاب. وكان الخط الأمامي المواجه لتنظيم داعش في مناطق سيطرة كل من الحزب الديمقراطي الكردستاني وحزب الاتحاد الوطني الكردستاني تقوده شبكةٌ من الشخصيات السياسية، والعسكرية، ورجال الأعمال التي يربط بينها وبين قادة الحزب أساساً روابط شخصية أو عائلية.
وقد تسبَّبَت مشاركة حفنة من القادة الذين يزدادون قوةً لغنائم الحرب في تقويض النظام السياسي. وكان وزراء الحكومة المنتمون إلى أحزاب المعارضة أقل قوةً من أتباع الحزب الديمقراطي الكردستاني أو الاتحاد الوطني الكردستاني في الوزارات نفسها، التي أصبحت المعقل الرئيسي للمحسوبية في الإقليم.
وقد فَرَضَ مسرور بارزاني، ابن مسعود، سيطرته على جهاز الأمن في الحزب الديمقراطي الكردستاني في صراعٍ على السلطة مع ابن عمه نيجيرفان بارزاني، وهو رئيس حكومة الإقليم، ورجلٌ عمليٌ يُركِّز على تنمية الاقتصاد.
وعزَّز الدعم العسكري الغربي غير المشروط هذه الاتجاهات. إذ قدَّمَت الولايات المتحدة والدول الأوروبية كمياتٍ كبيرة من الأسلحة للقوات الكردية. ظاهرياً للحكومة الإقليمية، لكنها في الواقع ذهبت إلى الحزب الديمقراطي الكردستاني.
وتوغَّلَت قوات الحزب الديمقراطي الكردستاني وقوات الأمن التابعة للاتحاد الوطني الكردستاني إلى ما هو أبعد داخل المناطق المُتنازَع عليها، ما أدى إلى تدمير بعض المناطق غير الكردية في عملية محاربة داعش ومنع المدنيين من العودة إلى ديارهم ما لم يتعهَّدوا بالولاء للأحزاب الكردية.
في الفترة التي سبقت معركة استعادة الموصل من داعش في أواخر عام 2016، بدأ خليط الحكم السيئ والاستقطاب السياسي والاستياء الشعبي يغلي. ورأى البعض أن الكفاح ضد داعش في المناطق الواقعة خارج الإقليم الكردي أداة في أيدي القادة الأكراد لإثراء أنفسهم، دون فائدة ملموسة للأكراد العاديين. فكما سأل أحد مقاتلي البيشمركة في بداية حملة الموصل: “لماذا علينا أن نكافح من أجل هذه الطبقة السياسية؟ لماذا نذهب للقتال في الموصل إذا لم تكن الموصل جزءاً من كردستان؟”.
وقد تعمَّقَ الشقاق بين الحزب الديمقراطي الكردستاني والاتحاد الوطني الكردستاني وأدَّى إلى تقسيمٍ إقليمي داخل كردستان؛ فالانتقال إلى أربيل التي يسيطر عليها الحزب الديمقراطي الكردستاني من السليمانية التي يسيطر عليها الاتحاد الوطني الكردستاني يبدو الآن وكأنه عبورٌ للحدود.
وبطريقةٍ ما، كان الاستفتاء ورد الفعل القاسي الذي أعقبه نتيجةً لسعي الحزبين لتأمين نفسيهما ضد بعضهما: فمن أجل حشد دعم شعبي للاستفتاء، أفرَجَ فصيل مسعود ومسرور بارزاني من الحزب الديمقراطي الكردستاني العلاقة مع قادة الحزب الوطني الكردستاني الذين شعروا بالتهديد بالتهميش من فصيل طالباني في الحزب. شجَّعَت هذه المناورة مجموعة طالباني، من خلال الوساطة الإيرانية، على السعي نحو التفاهم مع بغداد وسحب قواتها من كركوك.
كان دور جماعة طالباني حاسماً. إذ لم يُقدِّموا سوى دعمٍ فاترٍ ومتأخرٍ لخطط استفتاء بارزاني. وعندما لاحظوا قدر الاستياء الإقليمي والدولي الذي تكبَّده الرئيس بسبب قراره بالمضي قُدُماً في الاستفتاء، رأوا فرصتهم لقلب الطاولة عليه. ونتيجة لانسحابهم من كركوك، لم يلق الجيش العراقي، الذي تدعمه فصائل عسكرية مؤيدة لإيران، أي مقاومةٍ في الوقت الذي تقدَّم فيه.
وبدا أن هذه التطوُّرات كانت صادمةً لبارزاني، وهو دليلٌ على اعتقاده المُحتَمَل بأن الدعم الغربي وعائدات النفط قد كفتاه الحاجة إلى السعي للتوافق. وقد انتهج حزبه على نحوٍ متزايدٍ نهجاً فردياً.
وقال رجل أعمال انضم إلى البيشمركة قبل الأحداث الأخيرة، مشيراً إلى المناطق التي يسيطر عليها الحزب الديمقراطي الكردستاني وحده تقريباً: “إذا لم تجتمع السليمانية معنا، سنبني كردستان في دهوك وأربيل وسهل نينوى”.
ونتيجةً لهذه الغطرسة، أصبح من المشكوك فيه الآن ما إذا كانوا سيتمكَّنون من بناء كردستان في أي مكان على الإطلاق.
تحديات مماثلة لأكراد سوريا
وقد تواجه المناطق ذات الحكم الكردي شمال سوريا تحدياتٍ مماثلة. إذ كانت كذلك على استعداد لخوض معارك الولايات المتحدة في مقابل العتاد العسكري، كما أنها قد يُتخلَص منها كذلك مع انهيار معاقل داعش المتبقية والتفات واشنطن إلى مكانٍ آخر. ما الذي سيحدث بعد ذلك للأكراد السوريين المستقلين بحكم الواقع بعد أن تمكَّنوا من ذلك خلال السنوات الخمس الماضية؟
وعلى غرارِ إخوتهم في الناحية الأخرى من الحدود في العراق، استفاد الأكراد في سوريا من ضعف الدولة المركزية. ففي عام 2012 انسحب نظام الأسد من الشمال، ما ترك فراغاً شغله أحد الشركاء المحليين لحزب العمال الكردستاني في تركيا.
وقد قوبِلَت هذه المجموعة – المعروفة باسم وحدات حماية الشعب (YPG) – بسخاءٍ عسكري أميركي رغم تلقي قادتها تدريباً من حزب العمال الكردستاني الذي تعتبره الولايات المتحدة منظمةً إرهابية.
وكما هو الحال في العراق، مَكَّنَت الأسلحة والتدريب وحدات حماية الشعب من إلحاق تنظيم داعش الهزيمة تلو الأخرى. وقد كان لهذه الانتصارات عاقبتين متناقضتين: الأولى هي أنهم زادوا طموح الأكراد السوريين لبناء إقليم كردي مستقل في سوريا مثل ذلك الذي في العراق، كما مكَّنوا القادة الذين يُدرِّبهم حزب العمال الكردستاني والموجودين في سوريا – ممثلي الولايات المتحدة الرئيسيين هناك. ويحتار هؤلاء القادة بين الرغبة في استثمار مكاسبهم في سوريا دعماً لنضال حزب العمال الكردستاني في تركيا، وضمان الاستقلال الذاتي في سوريا أولًا وقبل كل شيء.
وقد أدَّى الاحتكار السياسي الذي تمارسه الكوادر المُدرَّبة من حزب العمال الكردستاني إلى نقل وحدات حماية الشعب من الطبقة المتوسطة العاملة شمال سوريا، الذين قد يكونون ممتنين لحمايتهم لهم، لكنهم غاضبون من سيطرتها الصارمة ويشعرون بصورةٍ متزايدةٍ بالتهميش من منتفعي الحرب المُتجوِّلين في الأرجاء.
وكما قال أحد سكان المنتمين للطبقة المتوسطة في القامشلي، فقد أصبح سائقو التاكسي ضباط شرطة أقوياء، و”يمكن الآن رؤية أصحاب المتاجر البسيطة يقودون سيارة مرسيدس موديل 2017 لأنهم يُهرِّبون النفط ويُصدِّرون الإسمنت”.
وأضاف شاكياً أن هذه التغييرات مُزعِجةٌ بشكلٍ خاص في وقتٍ يعمل فيه المُعلِّمون والمحامون والأطباء بعمل ثانٍ من أجل البقاء على قيد الحياة.
وتواجه وحدات حماية الشعب معضلةً خطيرة، فلكي يكونون أقوياء عسكرياً، يجب أن يظلوا مرتبطين بحزب العمال الكردستاني، الذي يخرج من تدريباته كبار قادته. لكن فعل ذلك سيحُول دون حصولها على الدعم من السكان المحليين الذين لا يجدون أي فائدةٍ في القادة المُدرَّبين من حزب العمال الكردستاني الذين يحملون لواء القضية الكردية في سوريا.
وأياً كان ما يعتقده السكان المحليون في أيديولوجية الفصيل، فإنهم يعترضون على ممارستهم للسلطة، التي لا تسمح بأي معارضة. وفي الوقت نفسه، فإن تبعية وحدات حماية الشعب لحزب العمال الكردستاني تجعله عدواً مباشراً لتركيا، التي حاولت خنق شمال سوريا اقتصادياً.
وإذا لم يكن الأكراد السوريون حذرين، فسيجدون أنفسهم معزولين من جيرانهم. وقد تجتمع أنقرة ودمشق في المستقبل للإطاحة بوحدات حماية الشعب واستعادة السيطرة المركزية، بالضبط كما أعطت أنقرة الضوء الأخضر لطهران لوقف التطلُّعات الكردية شمال العراق.
طريقان لتجنب المصير المؤلم
أمام وحدات حماية الشعب طريقان محتملان لتجنُّب هذا المصير. يمكن أن يتخلوا عن السيطرة على المناطق غير الكردية إلى حلفاءٍ محليين غير أكراد عقب هزيمة داعش عسكرياً، ثم يُركِّزوا على تأسيس حكمٍ ذاتي أكثر قابليةً للاستمرار في المناطق ذات الأغلبية الكردية.
وللقيام بذلك، يجب أن تعتمد وحدات حماية الشعب على الطبقة المتوسطة المُتعلِّمة المنتسبة إلى أحزابٍ أخرى غير حزب العمال الكردستاني وكوادره العسكرية المُدرَّبة، ويأملوا أن تُوفِّر الولايات المتحدة الحماية لهم. قد يكون هذا مقبولاً أيضاً لتركيا، التي يمكن أن تتسامح مع كيانٍ كردستاني على حدودها، كما هو الحال في العراق، بشرط ألا يهيمن عليه عدوه القاتل – حزب العمال الكردستاني.
لكن هذه الاستراتيجية تبدو معقدةً لأن التحالف الأميركي مع الأكراد السوريين أقل استقراراً من شراكة واشنطن مع الأكراد في شمال العراق. وفي أواخر نوفمبر/تشرين الثاني، أشار الرئيس الأميركي دونالد ترامب إلى إنهاء المساعدات العسكرية التي تُقدِّمها الولايات المتحدة لوحدات حماية الشعب.
وإذا كانت هذه إشارةً إلى اعتزام أميركا التخلي عن وكيلها في المستقبل المنظور – وهي إمكانيةٌ تخضع لنقاش كبير داخل وحدات حماية الشعب وحزب العمال الكردستاني – فلن يكون أمام المجموعة الكردية خيارٌ سوى تنويع تحالفاتها إذا أرادت البقاء في المشهد.
وبالنظر إلى الواقع، فإن المسار الآخر الذي يُمكن أن يتَّبعه القادة الأكراد السوريون هو دمج مؤسسات حكمهم الإدارية والأمنية في إطار الدولة السورية التي تآكلت قدراتها بشدة. وقد جاورت وحدات حماية الشعب شمال سوريا قوات النظام وداعميه الأقوياء في جوٍ هادئ، وتعايش المقاتلون الأكراد مع قوات الأمن السورية في مدينتي القامشلي والحسكة.
ولدى حزب العمال الكردستاني تاريخٌ من العلاقات مع النظام منذ عام 1978 على الأقل، عندما كانت له مكاتب في دمشق وتدرَّب مقاتلوه في وادي البقاع الذي يخضع لسيطرة سورية لبنانية آنذاك.
وقد تُحسِن وحدات حماية الشعب صنعاً إذا ما صبّت اهتمامها على إنشاء مؤسسات حكومیة فعالة بالتعاون مع الأحزاب الكردیة المحلیة وإذا ما أعادت النظر في فتح الباب لعودة الدولة السوریة لتقديم خدماتها. وقد يفتح هذا النهج أبواب التجارة مع العراق عبر الحدود المشتركة، التي تسيطر عليها الآن فصائل بغداد المسلحة وفصائل أخرى تابعة لإيران على الجانب العراقي؛ وذلك لأن الحكومة العراقية قد تنظر بإيجابيةٍ إلى التفاهم ما بين وحدات حماية الشعب ودمشق.
ولا يبدو واضحاً ما إذا كان الأسد سيوافق على أي شيء أقل من استعادة السيادة السورية بالكامل على المناطق الكردية، لكن لا يبدو واضحاً بالقدر نفسه ما إذا كان بمقدوره فرض سيادته كذلك.
وقد ألمحت موسكو إلى أنها قد لا تعارض الحكم الذاتي للأكراد. ولذلك ستعتمد الكثير من الأمور على ما إذا كانت الولايات المتحدة، بالإضافة إلى روسيا، ستوافق على التوسط في ترتيبات ما بعد الصراع بحيث تسمح للمناطق الكردية بالخروج من الحرب السورية وقد حققت قدراً من الحكم الذاتي.
من خلال هدم الحدود بين العراق وسوريا، تحدَّى داعش النظام السياسي الذي حكم الشرق الأوسط في مرحلة ما بعد الحرب العالمية الأولى. وقد ساعدت أفعاله الشنيعة على تغذية الأحلام الكردية بالاستقلال، وأدَّت إلى التدخل الغربي نيابةً عن الأكراد، كما أتاحت الفرصة لتغيير حدود المنطقة بما يخدم مصالح الأكراد.
وعلى جانبيّ الحدود السورية العراقية، انتظر القادة الأكراد انهيار الدول المركزية تحت وطأة الحرب الأهلية مع تعزيز قوتهم بمساعدة الأسلحة الغربية. وفي العراق، على وجه الخصوص، راهن الأكراد على شيء أهم، وهو دعم الغرب لإقامة دولة بعد انتهاء المعركة. ومع ذلك، يزداد الظن بأن هذا الرهان كان خاسراً.
وربما تكون هناك طريقةٌ لتحقيق الاستقلال أفضل من الاعتماد على القوى الخارجية وتصاعد القمع في الداخل. فقبل عام، كان لدى القادة الكرديين العراقيين استراتيجية بارعة لتحقيق حلم الدولة؛ عملية بناء نفوذ تدريجي تستند إلى وجود النفط والغاز داخل المنطقة الكردية.
فقد تمكَّنوا منذ ما يقرب من عقد من جذب شركات النفط والغاز النافذة على نحو متزايد بغرض الاستثمار في هذه المواقع غير المستكشفة، وراكموا بذلك دعماً سياسياً من حكومات هذه الشركات، بما في ذلك أميركا وتركيا وروسيا. ولم يُحقِّق هذا النهج الاستقلال في فترةٍ قريبة، ولكنه أرسى الأُسُس لذلك.
سيحتاج القادة الأكراد الآن للبدء من جديد. ويتطلَّب إتمام ذلك الأمر على أفضل وجه إعادة الاستثمار في أنواع المؤسسات التي يمكن أن تؤدي إلى دولةٍ مستقلة وتحافظ عليها، وذلك عندما يتحوَّل التوازن الإقليمي لصالح الأكراد. ويُعد البرلمان القوي والقضاء المستقل مُؤسَّسَتين أساسيَّتَين في هذه العملية، ليُكوِّنا معاً هيئة مستقلة لمكافحة الفساد تعمل رفقة سلطة قضائية.
لقد دُفِعَ القادة الأكراد إلى تقويض أسس الدولة الدائمة بفعل الحرب التي تدعمها الولايات المتحدة ضد داعش. كما أدى الجمع بين فرط الثقة السياسية والجشع الإقليمي إلى نكسةٍ كارثيةٍ للأكراد في العراق، وهو ما يُمكِن أن يحدث قريباً في سوريا أيضاً.
إذا أراد الأكراد أن يكون لديهم أي احتمال مستقبلي للاستقلال في حال تغيَّرت المعادلة في المنطقة، فيجب على قادتهم إعطاء الأولوية للإصلاح السياسي في الداخل. وإذا لم يفعلوا ذلك، فقد يواجهون، بعد 7 سنوات من الانتفاضات العربية، ربيعاً كردياً يزيحهم عن السلطة يُحرَّكه شعبٌ يغلب الشباب على تركيبه السكاني، ويملؤه الغضب والإحباط والحرص على معاقبة قادته لخطئهم التاريخي وسوء إدارتهم السياسية وفسادٍ لم يسبق له مثيل.