الباحث فابريس بالانش: استعادة السيطرة على مناطق “شرق وشمال سوريا” ضرورية لاستمرار نظام الأسد
أفين أحمد – القامشلي – خاص آشا نيوز
نشر معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى مقالا للباحث فابريس بالانش، يتحدث فيه عن رغبة النظام السوري في استعادة السيطرة على المناطق الشرقية في سوريا، ومدى قدرة النظام وحلفائه في الاقدام على هذه الخطوة.
يشير بالانش من خلال هذا المقال إلى أهمية هذه المناطق بالنسبة للاقتصاد السوري حيث كانت تنتج قبل الحرب ما يقارب نصف انتاج سوريا من الحبوب والقطن بالاضافة إلى حجم ضخم من الثروات الطبيعية كالنفط والغاز الطبيعي والتي لا يمكن الاستغناء عنها إذا ما أراد بشار الاسد إعادة بناء البلد والتمتع بنوع من الاستقلال الاقتصادي والسياسي.
يتحدث الكاتب أيضا عن مدى تخلف هذه المحافظات حتى قبل بدء الحرب وذلك نتيجة إهمال وتهميش النظام لها، حيث سخرت لاغناء اقتصاديات المحافظات الغربية أو ما يعرف بـ”سوريا المفيدة” مثل حلب ودمشق وحمص وحماة.
يسلط الكاتب الضوء على الاشكاليات التي قد يواجهها نظام الاسد وحلفائه إذا ما قرروا التوجه شرقا واستعادة هذه المناطق التي يحكمها الكورد أو قبائل عربية محلية قد اصبحت تتمتع بدرجة من الاستقلالية خلال السنوات الاخيرة من الحرب. يعتقد الكاتب أنه “بالنظر الى الواقع الجيوستراتيجي الحالي، دمشق يمكنها توقع المساعدة الروسية والايرانية في حال حولت اهتمامها العسكري باتجاه الشرق. بدون شك ايران وروسيا قلقتان من أن تحظى القبائل الكوردية والعربية بالمزيد من الاستقلالية في منطقة الفرات بعد سقوط الرقة “عاصمة” الدولة الاسلامية، والذي بدوره سيشجع على المزيد من التواجد الامريكي في المنطقة. يبدو حلفاء الاسد مؤمنين بفكرة أن واشنطن تستخدم حملة محاربة داعش كعذر لتثبيت تقسيم سوريا”. ويضيف أن هذا التقسيم حاليا يشكل خطرا على تركيا أكثر مما يشكله نظام الاسد أو تنظيم داعش، إذ قد يؤدي بطريقة ما إلى تشكيل اقليم كوردي في سوريا.
ويشير بالانش إلى العديد من المؤشرات التي تدل على نية النظام في إعادة السيطرة على هذه المناطق، منها استمرار الاسد في ارسال قواته الى محيط دير الزور بالرغم من الحاجة الماسة إلى هذه القوات في مناطق أخرى من “سوريا المفيدة”. إلا أنه يعتقد أن تنفيذ هذه الخطوة قد يستغرق سنوات، إذ أنه “من الواضح أن الاسد يحتاج إلى هذه المناطق من أجل إعادة بناء البلد بطريقة تبقي الشعب السوري معتمدا عليه عوضا عن المساعدة الدولية”.
أدناه النص الكامل للمقال مترجم إلى العربية:
الأسد يحتاج لـ”سوريا الغير مفيدة” أيضا
فابريس بالانش: أستاذ مساعد ومدير قسم الابحاث في جامعة ليون 2، وباحث زائر في معهد واشنطن.
يستخدم مصطلح “سوريا المفيدة” احيانا في الاعلام الغربي كإشارة الى الجزء الواقع بين حلب ودمشق، حيث سخر النظام كل طاقاته في محاولة استعادتها. هذا المصطلح يستطرد فكرة أن المحافظات الشرقية من البلاد تعتبر “سوريا الغير مفيدة”، على الاقل من الناحية العسكرية، وهذا يستدعي بالعديد إلى التساؤل حول سبب اصرار بشار الاسد في محاولة استعادتها بالتوازي مع عملية اعادة كل شبر آخر من البلاد. إلا أن الشرق ليس عديم الفائدة بالنسبة له، فبالإضافة الى أن الشرق ينتج اغلبية حبوب سوريا وقطنها، فهو مصدر رئيسي لنفط وغاز سوريا. السيطرة على الشرق لا يعني الانتصار في الحرب بما أن ايران وروسيا تقدمان للنظام وداعميه ما يكفيهم من الطاقة والغذاء. إلا أنه لا يمكن الاستغناء عن المنطقة إذا كان الاسد يخطط لاعادة بناء البلد، واستعادة استقلاله الاقتصادي، وما يهمه أكثر هو تأمين الاستقلال السياسي للنظام.
الطاقة والاكتفاء الذاتي الغذائي
على مر السنين، بنى نظام البعث اقتصادا استبداديا مكتفي ذاتيا لا يمكن الاستغناء عنه في تأمين استقلاله السياسي. في عام 1990 بدأت سوريا بعمليه تحرير بطيئة للاقتصاد، تسارعت تحت حكم الاسد، لكن النظام ابقى على قبضته المحكمة على قطاعات معينة ليضمن استقلال غذاءه وطاقته. وهذا بدوره سمح له بأن يحافظ على حجم متوازن للتجارة خارجية، وبالتالي لا ديون خارجية.
كان استغلال الزراعة ومصادر الطاقة الكامنة في شرق البلاد ضروريا لتنفيذ هذه الخطة. في عام 2010، انتجت المحافظات الشرقية، الحسكة، دير الزور والرقة 57% من اجمالي انتاج البلد للحبوب و75% من اجمالي انتاج القطن حسب بيانات الجهاز المركزي للاحصاء. وبالمثل بالنسبة لنفط سوريا من دير الزور والحسكة، ففي عام 2010، بلغ انتاج النفط 380 ألف برميل يوميا، صدر منه 140 ألف برميل حسب إدارة معلومات الطاقة الامريكية. اكتشاف حقول الغاز الطبيعي في تدمر حفز فكرة بناء محطات توليد طاقة معتمدة على الغاز، بحيث تسمح للنظام المحافظة على مستوى تصديره للنفط في وقت كان البلد يشهد ارتفاعا حادا في استهلاك الطاقة محليا. إضافة إلى ذلك، زودت مناجم الفوسفات في تدمر البلد بالأسمدة الغير مكلفة وأمنت مصدرا رئيسيا للدخل.
الثروات الشرقية أساسية لسوريا المفيدة
معظم النشاطات الاقتصادية في غرب سوريا كانت مرتبطة باستثمار الثروات في الشرق. حلب هي افضل مثال على ذلك، فعندما فقدت هذه المدينة الشمالية مناطقها الريفية في الاناضول بعد استقطاعها من الامبراطورية العثمانية في عام 1920، ارتأت ان تبني مناطق نائية جديدة لها، لذا استثمر رجال الاعمال والمقاولون في المحاصيل الصناعية في الشرق. ساعد هذا في تأسيس صناعات نسيجية وغذائية قوية في حلب.
وفي اماكن أخرى، مثل حماة، تخصصت المدينة منذ فترة طويلة في مجال الثروة الحيوانية والمواشي التي كانت تربى في ديرالزور والتي تعد مركز سوق المواشي السورية. وبالمثل، تعتمد مصافي النفط في حمص ومصانعها الكيميائية على الهيدركربون والفوسفات المستخرجة من الشرق. أما بالنسبة لدمشق، فالعاصمة المتخمة بالبيروقراطية ومجتمع اعمالها هم الأوائل في الاستفادة من توزيع عائدات تصدير الثروات النفطية، المعدنية، والزراعية.
هذه المناطق الشرقية المنتجة، وبالرغم من أهميتها، كانت دوما مهمشة من قبل الدولة. لا توجد أي مصافي نفط أو محطات توليد طاقة في المنطقة، خططت الدولة لبناء محطة طاقة في الحسكة وأخرى في دير الزور قبل الحرب، إلا أنه لم ينفذ أي منها. لقد ظهرت ايضا بضع صناعات مملوكة للقطاع العام في مجال صناعة النسيج أو الاغذية. ويحصل القطاع الخاص في المنطقة الشرقية على نسبة قليلة من الاستثمار. حتى قبل الحرب، كانت هذه المناطق تشبه “مستعمرات داخلية”، وحتى لو تم المحاولة لاعادة بناء البنية التحتية الصناعية لهذه المناطق بعد الحرب، لن تكون مجدية كثيرا للقطاع الخاص، حيث أن المشكلة قد تفاقمت مع انعدام الخبرات والايدي الماهرة في مجال تأسيس المشاريع الصناعية وبروز المصالح القبلية. باختصار، القطاع العام الصناعي في الشرق يخدم زبائن النظام في الغرب، وسيكون تغيير هذا الواقع صعبا.
سلطت بيانات آخر إحصاء سوري يمكن الاعتماد عليه في عام 2004 الضوء على مدى تخلف اقتصاد المنطقة الشرقية. كانت حينها نسبة 40% من السكان تعمل في الزراعة مقارنة مع نسبة 20% على المستوى الوطني. وكانت نسبة العمل لصالح القطاع العام، والذي يعد معيارا لمدى التقرب من النظام، منخفضا بشكل ملحوظ. كانت المؤشرات الاجتماعية غير مثيرة للدهشة، حيث كانت نسبة الأمية 30% مقارنة مع 12% على المستوى الوطني. الشرقيون كانو أصلا تحت مستوى التطور قبل مجيء البعث الى السلطة عام 1963، ولم يستفيدوا إلا قليلا من استثمار النظام لثرواتهم الطبيعية. قد يشير البعض الى المشروع المكلف جدا لحوض الفرات للري كنقيض لهذه الامثلة، إلا أن هذا المشروع استهدف منه التحكم بنسبة السكان عوضا عن مساعدتهم اقتصاديا، يتجلى ذلك من خلال نتائج المشروع المختلفة.
هنا يبرز سؤال: هل سيقبل سكان سوريا الشرقية هذه الدرجة من التهميش إذا ما تمكنت دمشق من استعادة تلك المناطق؟. القبائل العربية والكوردية المحلية اصبحت تتمتع بنوع من الاستقلالية خلال الحرب، لذا على الارجح سيواجهون صعوبة في قبول الاوامر من العاصمة والتفرج على عودة الصناعات النفطية المملوكة من قبل الدولة وشركات القمح والقطن المهيمنة عليها من قبل العلويين من المحافظات الغربية. إلا أنهم إذا ارادوا أن يحولوا ويصدروا موادهم الخامة، سيتوجب عليهم الخضوع للنظام أو إيجاد شريك بما أن المناطق الشرقية لا تملك أي صناعات تحويلية خاصة بها. على الرغم من أن الكورد يسيطرون على ثلث نفط سوريا الآن، إلا أن العقبات اللوجستية والديبلوماسية الحالية تمنعهم من تصدير النفط عبر تركيا أو حكومة اقليم كردستان العراق. بالنسبة للحبوب والقطن المنتج في الحسكة، فالتجار من المناطق الغربية قد حرصوا على الاحتفاظ بعلاقاتهم مع المنتجين الشرقيين ليضمنوا احتكارهم لقطاع التصدير، حتى بلغ بهم دفع صرائب المرور للدولة الاسلامية (داعش).
هذه الروابط الاقتصادية تظهر السبب وراء رغبة دمشق بإعادة إحكام قبضتها على سوريا الشرقية، وتظهر أيضا أنه أيا كان من يسيطر على الشرق، سيكون له نفوذا كبيرا لدى الاسد.
ايران وروسيا تدعمان هدف الاسد
بالنظر الى الواقع الجيوستراتيجي الحالي، دمشق يمكنها توقع المساعدة الروسية والايرانية في حال حولت اهتمامها العسكري باتجاه الشرق. بدون شك ايران وروسيا قلقتان من أن تحظى القبائل الكوردية والعربية بالمزيد من الاستقلالية في منطقة الفرات بعد سقوط الرقة “عاصمة” الدولة الاسلامية، والذي بدوره سيشجع على المزيد من التواجد الامريكي في المنطقة. يبدو حلفاء الاسد مؤمنين بفكرة أن واشنطن تستخدم حملة محاربة داعش كعذر لتثبيت تقسيم سوريا.
احتمالية تقسيم سوريا بحيث تكون مفيدة للكورد يقلق تركيا أيضا. فمن وجهة نظر انقرة، الخطر الاساسي لم يعد الاسد أو الدولة الاسلامية، بل قيام كوردستان سوريا وتحت إدارة حزب الاتحاد الديمقراطي أو ب.ي.د ( لكن قد يغير المسلسل المستمر من الهجمات الارهابية من قبل داعش على المدن التركية تلك الحسابات).
أما على الجانب الايراني، إحدى المؤشرات على استعداد ايران لمساعدة الاسد في الاستحواذ على مناطق داعش هي الميليشيات الشيعية المدعومة من ايران في غرب الموصل في العراق، والتي استولت على تلعفر، وتتقدم باتجاه الحدود السورية. تحرص القيادات الايرانية على منع قيام أي كيان سني متحالف مع الخليج والغرب في هذه المناطق.
بدون شك، الكورد السوريون مفيدون للاسد بطرق معينة، فمن جهة يساهمون في إبقاء المعارضة منقسمة، ومن جهة أخرى هم يخدمون كمنصة لوجستية لتدريب القبائل السنية في سهل الفرات لقتال داعش. لكن إذا ما أصبح الكورد أو القوات التي يشرفون على تدريبها قوية جدا، سيشكلون خطرا على نظام الاسد العلوي. الكورد لا يستطيعون حكم منطقة الفرات وذلك بسبب العداء المتبادل بينهم وبين القبائل العربية المحلية، لكن القبائل بحد ذاتها يمكنها أن تشكل خطرا إذا سقطت الرقة، وبدأت البلدان الغربية بتحويل الدعم لها عبر المناطق الكوردية. لمنع حدوث هذا السيناريو، تبدو دمشق وايران وروسيا مترقبة لمواجهة أوسع بين الكورد وتركيا. ازدياد التوتر في جنوب شرق تركيا، بالتزامن مع اطلاق موسكو العنان لتصرفات تركيا ضد كورد سوريا قد يكسر المصالحة المؤقتة الهشة والتي فرضت من قبل واشنطن بعد تدخل تركيا في سوريا في آب، أغسطس الماضي.
الصبر والغضب
إذا تم تأجيل أو إجهاض عملية تحرير الرقة، ستبتهج موسكو ودمشق وطهران بالفوضى الناجمة في شمال شرق سوريا، وستتدخل بكل سرور لاستعادة النظام فيها إذا ما أبدى الغرب عدم استعداده في التدخل. تبقى احتمالية عودة الجيش السوري إلى سهل الفرات مفتوحة، يتجلى هذا في استمرار النظام بإرسال قوات النخبة وغيرها من التدعيمات الى مدينة دير الزور المطوقة منذ فترة طويلة بينما قد تكون تلك القوات مجدية اكثر في استرداد “سوريا المفيدة”. تعند النظام في دير الزور ليس مجرد مثال على عقيدته في الحفاظ على وجوده في مراكز جميع المحافظات بأي ثمن، بل هو على الأرجح خطوة أولى في استراتيجيته لاستعادة السيطرة على كامل البلاد، ويبدو أن شركائه على استعداد لدعم هذه الجهود.
السؤال هو: متى؟ الجواب يعتمد على متى يصبح النظام قادرا على تحمل الكلفة وتجميع القوة البشرية المسلحة اللازمة. قد يستغرق هذا الجدول الزمني، على الارجح، سنينا وليس شهورا، خاصة أن انظار النظام تبدو موجهة إلى محافظة ادلب أولا. لكن جان دي لافونتين قال ذي مرة: “الصبر وطول الوقت يجديان أكثر من الشدة والغضب”، وبالنسبة للاسد الأول لا يمنع الاخير.
في نفس الوقت، هذه العوامل تشير إلى أن الولايات المتحدة وحلفائها يمكنهم أن يمارسوا نفوذا قويا على دمشق إذا ما تمكنوا هم أو وكلائهم في السيطرة على أجزاء مهمة من شرق سوريا. ومن المفترض أن يعني هذا تعزيز وجودهم ونشاطهم في الشمال الكوردي أولا، ربما عن طريق إقامة مناطق آمنة أو مناطق حظر طيران هناك. بالرغم من أنه قد يكون الجدول الزمني لاتخاذ النظام أي اجراءات في الشرق طويلا، إلا أنه من الواضح أن الاسد يحتاج إلى هذه المناطق من أجل إعادة بناء البلد بطريقة تبقي الشعب السوري معتمدا عليه عوضا عن المساعدة الدولية.